الثلاثاء، 12 مايو 2009

فتح الأندلس


ما الذي يشدنا في السجل التاريخي الحافل الذي خطه المسلمون في الأندلس؟ هل هو المجد الديني والسياسي الذي تحقق بدخول الإسلام إلى أوروبا؟ هل هو الصرح العلمي والأدبي الشامخ الذي شيده المسلمون في ظل دولة بلغت أعنان السماء رقيا ورفعة في وقت كانت أوربا ما تزال نائمة تحت أقدام الزمن تلعق أيامها فقرا وجهلا وتخلفا وانشقاقا؟ هل هو تلك الأطلال التي ما زال بعضها قائما حتى الآن دليلا على ذلك التقدم المعماري الذي اختلط فيه الفن بالثراء بحب الحياة باللمسة الدينية ليعطينا في النهاية لوحة جدارية عن حياة فريدة غزلها المسلمون في بلاد الأندلس بأيد لا تعرف الزيف ولا الكسل؟ كل شيء جائز.. لكن الذي يأكل قلوبنا حقا هو "الفرصة الذهبية" التي ضاعت للأبد من أيدي المسلمين في أوروبا؟ .
البعض يقول لو أن الوجود الإسلامي طال عمره إلى الآن في إسبانيا، لكان للأمور شأن آخر.. ولكان للمسلمين وضع يختلف جملة وتفصيلا عما نراه الآن في الغرب الأوربي؟.. وعلى كل هذا الجمال والقوة التي غلفت حلم الأندلس.. جاء انهيار الحلم مفجعا مؤلما نبكيه إلى الآن يأسا وندما.. .
يبدأ الحلم الجميل من المغرب، وتحديدا بعد أن نجح القائد المسلم عقبة بن نافع الفهري في أن يكتسح القطاع الشمالي من إفريقية، ويصل بفرسانه إلى المغرب الأقصى، وكان ذلك سنة 62 هـ ( 682 م)، ولما وصل إلى "طنجة"، لم يجد حاكمها "يليان" مفرا من مهادنة الوافد المنتصر ومسالمته، وسالمه بالفعل عقبة، وعمل "يليان" في خدمة المسلمين".

يواصل القائد بعد ذلك مسيرته إلى أن يصل بجيشه إلى مدينة "ماسة"، وهي المدينة الواقعة على المحيط الأطلنطي، ويقول الرواة إن "عقبة بن نافع" دخل بفرسه إلى عرض البحر حتى طال الماء تلابيبه، وبعدها ردد مناجيا ربه وقال "لولا أن البحر منعني، لمضيت في البلاد إلى مسلك ذي القرنين مدافعا عن دينك، مقاتلاً من كفر بك".

ويبدأ فصل جديد من تحقيق الحلم، حيث القائد موسى بن نصير الذي تولى إمارة الحكم في ولاية إفريقية بأمر عبد العزيز بن مروان، تولى موسى الإمارة وكان الجزء الأعظم من المغرب قد دان للمسلمين دينيا وسياسيا،رغم مواصلة قبائل البربر لحركات التمرد والعصيان، الأمر الذي دفع بموسى بن نصير إلى شن حملات متتالية لم يتردد فيها عن استخدام أقصى وسائل القوة والرهبة لكسر شوكة المتمردين واستئصال شفأتهم.
كان من شأن تلك الحملات أن بدأ البربر يرهبون جانب الدولة الإسلامية، وهنا، يقول لنا الرواة، شرعت القبائل البربرية في الدخول إلى الإسلام والإقبال على تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم، ولا يشك المؤرخون، مسلمين وغربيين، في أن فتح المغرب والقضاء على نزعة التمرد لدي القبائل البربرية كان يعد الخطوة الأولى، والأساسية، لوصول المسلمين إلى إسبانيا.
فمع استتاب الأمر لموسى بن نصير في بلاد المغرب، كانت النية قد اتجهت إلى عبور البحر والدخول إلى القطاع الجنوبي من إسبانيا، لذلك أخذ موسى في الإعداد للغزو، وكان قد اختار مولاه طارق بن زياد، لما اشتهر عن هذا القائد من شجاعة وبلاء حسن في ساحات الوغى، لقيادة الحملة على الأندلس.
ولنقف وقفة سريعة عند شخصية "طارق بن زياد"، إذ لم يقطع المؤرخون بأصل طارق بن زياد، فبعضهم قال إنه ينتمي إلى البربر، بل إلى قبيلة "نفزة"، في حين أكد البعض أنه عربي من "صدف"، وشطح آخرون وقالوا إنه فارسي من همذان، ما يهمنا هنا أن هذا القائد كان مسلما يقود تحت إمرته جيشا ألف البربر معظم قوامه ( يقول الرواة أن الجيش الذي غزا الأندلس كان بأكمله من البربر، الأمر الذي يرجح عند البعض أن طارق كان بربريا وإلا ما كان باستطاعته قيادتهم وهم المعروف عنهم ميلهم الأصيل للتمرد والعصيان).
وفي الخامس من رجب سنة 92 هـ إبريل عام 711l م، كانت هناك أربع سفن تمخر عباب البحر متجهة إلى الأندلس، وبجيش قوامه سبعة آلاف مقاتل، منهم ثلاثمائة فقط من العرب، وكان "يليان" هو المسؤول المباشر عن توفير هذه السفن للمسلمين بعد أن صار يعمل في خدمتهم طبقا لمعاهدة الصلح التي تمت بينه وبين عقبة بن نافع.
يقول ابن عذاري إن يليان كان يحمل "أصحاب طارق في مراكب التجارة التي تذهب إلى الأندلس، ولا يشعر اهل الأندلس بذلك ويظنون أن المراكب تذهب للتجارة، فحمل الناس أفواجا أفواجا إلى الأندلس".
ومع وصول القوات الإسلامية إلى أراضي الأندلس، تبدأ الاشتباكات المتتالية بين المسلمين والأسبان، والتي تنتهي بأكبر جولة كانت بين الفاتحين وبين قوات القوط بقيادة "لذريق"، حدث هذا اللقاء في يوم الأحد 29 رمضان سنة 92 هـ19 يوليو سنة 711 م، استمرت هذه المعركة حوالي ثمانية أيام، انتهت بالهزيمة الساحقة لقوات "لذريق" الذي تراجعت صفوفه القهقهرى والمسلمون لا يرفعون السيوف عن رقاب القوطيين لمدة ثلاثة أيام. ويواصل طارق بن زياد مسيرته نحو مدن الأندلس، فيتجه إلى "طليطلة" عاصمة القوطيين، ويوجه مغيثا الرومي إلى "قرطبة"، لكن قصة الفتح لا تنتهي عند هذا الحد. إذ ظلت الحرب دائرة إلى أن استكمل موسى بن نصير جهود طارق، ومن بعدهما عبد العزيز بن موسى الذي استكمل الفتح العربي للأندلس حين بسط نفوذ المسلمين على الجانب الغربي من الأندلس (البرتغال حاليا).

لا تعتقد أن الفتح كان سهلا، أو أنه تم بين عشية وضحاها، فالمؤرخون ذكروا لنا تفاصيل دقيقة عن كافة الجولات التي دارت بين المسلمين والأسبان، وجميعها تؤكد حتمية انتصار المسلمين وهزيمة الأسبان.
فهزيمة "لذريق" كان مردها هذا العداء الواضح بينه وبين شعبه الذي استقبل الغازي دون أدنى مقاومة تذكر.
كما أن الاضطهاد البشع الذي ذاقه الشعب الإسباني جعله يرى في الفتح الإسلامي فرجا وخروجا من مستنقع الفقر والاستبداد والتعصب الديني الأعمي الذي مارسه "لذريق" ضد الأسبان.
هذا هو الفصل الاول من الحلم، فصل شديد القوة، تظلله أسماء حفت بالاحترام والإجلال لشجاعتها وقوة شكيمتها (مع الأعداء) ونخوتها واعتزازها القوي بعروبتها وإسلامها.
الفصل الأخير من الحلم كان على النقيض تماما..منتهى الضعف، والتخاذل، والتشرذم إلى دويلات لم تكن بقادرة، وهي منعزلة عن بعضها البعض، أن تتوقف أمام حركة الاسترداد المسيحي لأراضي شبه الجزيرة الإيبرية (يرى المؤرخون الأسبان أن هذه الحركة تبدأ من معركة "كوفا دونجا" أو مغارة دونجا وفيها انهزم ابن علقمي اللخمي شر هزيمة من قوات "بلايه"، وانتهت بتأسيس أولى الإمارات المسيحية في شمال الأندلس). وبنفس العوامل التي كانت الساعد الأيمن للمسلمين في فتح الأندلس، سقط المسلمون.. وكأنه لا عبرة ولا اتعاظ..
فقد سقطت مدينة "طليطلة" بعد أن صارت الخيانة من الأقربين قبل الأعداء وممالاة العدو هي السياسة التي فضلها الحكام المسلمين في الأندلس.. ويروي لنا التاريخ تفاصيل مرة عن هذا الشقاق الذي دب بين بني العباد الذي جلله عارا حاكم "اشبيلية" ابن عباد حين ساعد الملك الإسباني "ألفونس" في القضاء على أخيه الذي يحكم "طليطلة"، وإذا بحثت عن بذرة الخلاف والشقاق، لوجدتها تافهة وخطيرة في آن.. وتتمثل في التسابق على الهيمنة والحفاظ على المصالح الذاتية.. ولم تكن غرناطة، الومضة الأخيرة في الحلم الجميل، استثناء من القاعدة.. فالفرقة والصراعات الداخلية سادت بين قاعات البيت الحاكم ..في الوقت الذي حقق فيه الأسبان وحدة سياسية تربطها الدم وصلة الرحم بزواج الملكة "إيزابيلا" ملكة قشتالة من "فرديناند الخامس" ملك أرجوان.

يتزامن مع ذلك أن يقوم على أمر آخر معقل من معاقل الإسلام في الأندلس ملك لا يمكن وصفه سوى أنه "ملك ضعيف"..أبو عبد الله الصغير، فرغم صموده أمام الكاثوليكيين لمدة عامين وسبعة اشهر تقريبا، سقطت عروس الأندلس "غرناطة".
كان سقوطها مقدرا سلفا من حاكم ضعيف خائر يبكي مثل النساء، ومن تفسخ في عرى المسلمين الذي يغري الأسافل بشد رقابهم إلى الوحل، ومن وحدة وتكاتف بدأه الأسبان استعداد للثأر واسترداد الضائع (يقول المؤرخون إن الزوجين "ايزبيلا" و"فرديناند الخامس" كانا يحلمان بقضاء شهر عسلهما في قصر الحمراء)، وكان طبيعيا أن تسقط آخر معاقل الأندلس..والدمع يترقرق في مقلتي حاكمها.. ولكن لا تعاطف ولا إعفاء من المسئولية..فأمه قالت له بلسان، نحسبه لسان حكيم لأم تخاطب ابنها المكلوم، "ابك كالنساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال".

قامت دولة الإسلام في الأندلس منذ سنة 92هجرية وظلت قائمة وصامدة تتقلب من طور لآخر ومن حال لحال بين قوة وضعف ووحدة وتفرق وعزة وذلة حتى تكاثرت عليها الخطوب وأحاط بها الأعداء من كل مكان فسقطت بعد عمر مديد وحكم فريد سنة 897هجرية أي أنها ظلت قائمة حية طيلة ثماني قرون، وهى بذلك تعتبر أطول دول الإسلام عمراً، وكان حادث سقوطها مدوياً آلم كل المسلمين على وجه الأرض، حتى أن سلطان مصر المملوكي وقتها ‘الأشرف قايتباي’ قد هدد فرناندو وإيسابيلا ملكي إسبانيا النصرانية بأن يقتل كل النصارى الموجودين بمصر واليمن والشام إذا أساءوا لمسلمي الأندلس بل إن حادثة سقوط غرناطة آخر معاقل الإسلام بالأندلس لتسامي حادثة سقوط بغداد وسقوط بيت المقدس في يد الصليبيين تارة وفى يد اليهود تارة أخرى، بالجملة كان حادث السقوط من أشهر وأخطر أحداث القرن التاسع الهجري ولكنه لم يكن الفصل الأخير في حياة المسلمين بالأندلس ، حيث جاءت بعد ذلك أحداث وفصول أشد مأساوية وأكثر إيلاماً، وبرز خلال تلك الفترة المجهولة تماماً لجمهور المسلمين العديد من الأبطال والفرسان الذين حاولوا استعادة الملك القديم، وصاحبنا هذا هو فارس الأندلس الأخير .

محاكم التفتيش
لم تكن الدموع التي ذرفها الأمير أبو عبد الله محمد وهو يسلم مفاتيح قصور الحمراء بغرناطة لملكي إسبانيا النصرانية ‘فرناندو’ و’إيزابيلا’، هي الدموع الأخيرة في بلاد الأندلس، إذ أعقبها الكثير والكثير من الدموع والدماء، فرغم العهود والأيمان المغلظة التي قطعها ‘ فرناندو’ على نفسه ووقع عليها في وثيقة استلام غرناطة الشهيرة، إلا أن الله عز وجل الذي هو أصدق قيلا قال في محكم التنزيل ‘لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ..’ وقال ‘إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا أيديهم وألسنتهم بالسوء ..’ فأبت على فرناندو صليبيته أن يفي للمسلمين بشيء من العهود والمواثيق، وكانت هذه الوثيقة ستارا للغدر والخيانة وشنيع ما سيقترف بالمسلمين في الأندلس.عهد الملك الصليبي ‘فرناندو’ إلى الكاردنيال ‘خمنيس’ مطران طليطلة ورأس الكنيسة الإسبانية مهمة تنصير مسلمي الأندلس، وكان هذا الرجل من أشد أهل الأرض قاطبة عداوة للإسلام والمسلمين، بل إن البغضاء المشحونة في قلبه كانت مضرباً للأمثال لعصور طويلة، فأنشأ هذا الرجل ما يسمى بديوان التحقيق أو عرف تاريخيا بمحاكم التفتيش وذلك سنة 905 هجرية، فكان أول عمل لهذه المحاكم أن جمعت كل المصاحف وكتب العلم والفقه والحديث وأحرقت في ميدان عام كخطوة أولى لتنصير المسلمين بقطع الصلة عن تراثهم وعلومهم الشرعية.بدأت حملة تنصير المسلمين بعد ذلك بتحويل المساجد إلى كنائس ثم جمع من بقى من الفقهاء وأهل العلم وتم إجبارهم على التنصر، فوافق البعض مكرهاً وأبى الباقون فقتلوا شر قتلة، وكان التمثيل بجثث القتلى جرس إنذار لباقي المسلمين إما التنصير وإما الموت والقتل والتنكيل وسلب الأموال والممتلكات وكانت عملية التنصير مركزة على إقليم غرناطة ومنه انتقلت حمى التنصير إلى باقي بلاد الأندلس حيث كان هناك الكثير من المسلمين تحت حكم النصارى خاصة في الوسط والشرق.هب المسلمون بما بقى عندهم من حمية وغيرة على الدين للدفاع عن هويتهم وعقيدتهم، فاندلعت الثورة في عدة أماكن من غرناطة وغيرها، واعتزم المسلمون الموت في سبيل دينهم، ولكنهم كانوا عزلاً بلا سلاح ولا عتاد، فقمع الصليبيون الثورات بمنتهى الشدة فقتل الرجال وسبيت النساء وقضي بالموت على مناطق بأسرها ماعدا الأطفال الذين دون الحادية عشرة حيث تم تنصيرهم، وبعد قمع الثورة بمنتهى العنف والقسوة، أصدر ‘فرناندو’ منشوراً بوجوب اعتناق المسلمين للنصرانية، وذلك سنة 906 هجرية ومن يومها ظهر ما يعرف في تاريخ الأندلس المفقود باسم ‘الموريسكيين’ وهى كلمة إسبانية معناها المسلمين الأصاغر أو العرب المتنصرين، ومحنتهم تفوق الخيال وما لاقوه وعانوه من إسبانيا الصليبية لا يخطر على بال.
الموريسكيونظهرت في بلاد الأندلس المفقود طائفة الموريسكيين وهم المسلمون الذين اضطروا للبقاء وأجبروا على إظهار النصرانية وترك الإسلام، وهذه الطائفة رغم البطش والتنكيل الشديد الذي تم بها لتجبر على التنصر، إلا إنها ظلت مستمسكة بدينها في السر، فالمسلمون يصلون سراً في بيوتهم، ويحافظون على شعائرهم قدر استطاعتهم وذلك وسط بحر متلاطم من الاضطهاد والتنكيل والشك والريبة.كانت العداوة الصليبية المستقرة في قلوب الأسبان تجاه مسلمي الأندلس أكبر من مسألة الدين أو غيرها، فقد كانت هناك رغبة جامحة عند قساوسة ورهبان أسبانيا لاستئصال الأمة الأندلسية، فظل الموريسكييون موضع ريب وشك من جانب الكاردينال اللعنة ‘خمنيس’ وديوان التحقيق، فعمل ‘خمنيس’ على الزج بآلاف الموريسكيين إلى محاكم التفتيش حيث آلات التعذيب والتنكيل التي تقشعر لها الأبدان ويشيب منها الولدان وذلك للتأكد من صدق تنصرهم وخالص ارتدادهم عن الإسلام، وكانت أدنى إشارة أو علامة تصدر من الموريسكيين وتدل على حنينهم للإسلام كفيلة بإهدار دمائهم وحرقهم وهم أحياء، واستمرت إسبانيا الصليبية في سياسة الاضطهاد والقمع والتنكيل بالموريسكيين، وبلغت المأساة مداها بعدما أصدر ‘شارل الخامس’ قراراً بمنع سفر الموريسكيين خارج إسبانيا باعتبارهم نصارى ومن يخالف يقتل وتصادر أملاكه وعندها اندلعت الصدور المحترقة بثورة كبيرة في بلاد الأندلس.
الثورة الشاملة
كان تولى الإمبراطور ‘فيليب الثاني’ عرش إسبانيا بداية حملة اضطهاد غير مسبوقة للموريسكيين الذين كانوا موضع شك دائم من قبل الكنيسة ورهبانها الذين كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم أن الموريسكيين ما زالوا على الإسلام في سويداء قلوبهم، وكان ‘فيليب الثاني’ ملكاً شديد التعصب، كثير التأثر بنفوذ الأحبار، فأصدر حزمة من القرارات جاءت بمثابة الضربة القاتلة لبقايا الأمة الأندلسية وذلك بتجريدها من مقوماتها القومية الأخيرة بتحريم استخدام اللغة العربية والملابس العربية، وعندها قامت الثورة الشاملة وكان مركز الثورة في منطقة جبل ‘الشارات’ واندلع لهيب الثورة منها في أنحاء الأندلس ودوت صيحة الحرب القديمة وأعلن الموريسكيون استقلالهم، واستعدوا لخوض معركة الحياة أو الموت، واختار الثوار أميراً لهم اسمه ‘محمد بن أمية’ يرجع أصله إلى بنى أمية الخلفاء كإشارة على استعادة الخلافة ودولة الإسلام في الأندلس مرة أخرى. حقق الموريسكيون عدة انتصارات متتالية، اهتزت لها عروش النصرانية في أسبانيا وأوروبا، فأعدت أسبانيا حملة عسكرية ضخمة يقودها أمهر قادتهم هو ‘الدون خوان’، وجاء المجاهدون المسلمون من المغرب العربي وانضمت فرقة عسكرية عثمانية للثوار جاءتهم من تونس، وكان الأسبان يقتلون من يقع في أسرهم ويمثلون بجثثهم أبشع تمثيل حتى الأطفال والنساء لم يسلموا من أفعالهم، وزاد ذلك الثوار يقينا بحتمية الاستمرار في الثورة والقتال حتى الموت، وقويت العزائم وتقاطر المجاهدون المغاربة على الأندلس، وهنا امتدت أيدي الغدر والخيانة في الظلام لتغتال حلم الأندلسيين بمكيدة شريرة ويقتل الأمير ‘محمد بن أمية’ قبل أن يحقق هدفه المنشود.
القائد الجدي
بعد اغتيال ‘محمد بن أمية’ لم تكن هذه الثورة لتقف أو تنتهي بموت زعيمها، فاختار الثوار أميراً جديداً هو ابن عم القتيل واسمه ‘مولاي عبد الله محمد’، وكان أكثر فطنة وروية وتدبرا فحمل الجميع على احترامه ونظم جيش الثوار وجعله على الطراز الدولي ويفوق في تنظيمه الجيش الصليبي الأسباني واستطاع ‘مولاي عبد الله’ أن يستولي على عدة مدن هامة مثل مدينة ‘أرجبة’ التي كانت مفتاح غرناطة والتي كان سقوطها شرارة اندلاع ثورة الموريسكيين وذيوع شهرة ‘مولاي عبد الله محمد’.حشدت إسبانيا أعداداً ضخمة من مقاتليها يقودهم ‘الدون خوان’، فحاصر هذا الجيش الجرار الثوار في بلدة ‘جليرا’ وكان مع الثوار فرقة من الجنود العثمانيين، ودارت رحى معركة في منتهى الشراسة أبدى فيها المسلمون بسالة رائعة، ولكن المدينة سقطت في النهاية ودخلها الأسبان دخول الضواري المفترسة وارتكبوا مذبحة مروعة شنيعة لم يتركوا فيها صغيرا ولا كبيرا ولا طفلا ولا امرأة، وحاول ‘الدون خوان’ مطاردة فلول الثوار ولكنه وقع في كمين للثوار في شعب الجبال عند مدينة ‘بسطة’ وأوقع الثوار هزيمة فادحة بالصليبيين الأسبان ، جعلت الحكومة الأسبانية تفكر في مصالحة الثوار المسلمين.
السلام الفاشل
عرضت الحكومة الصليبية الإسبانية على المسلمين الثائرين معاهدة سلام لإنهاء القتال، فبعث ‘الدون جوان’ إلى أحد الثائرين واسمه ‘الحبقى’ وقد لمحت فيه إسبانيا الصليبية بعض المؤهلات التي ترشحه للتفاوض وقبول شروطها المجحفة في السلام، وكانت شروط المعاهدة تتضمن وقف انتفاضة المسلمين فورا وفى سبيل ذلك يصدر وعد ملكي بالعفو عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم في ظرف عشرين يوما من إعلانه ولهم أن يقدموا تظلمهم وشكاواهم مع الوعد بالبحث فيها ودراستها..!وكل من رفض العفو والخضوع للسلطة الصليبية سيقتل ما عدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة والسبب بالقطع معروف النساء سبايا والأطفال ينصرون.كانت شروط السلام الصليبي المعروض على الموريسكيين كفيلة بأن يرفض الأمير مولاي عبد الله محمد هذه المعاهدة الجائرة التي لا تعطى المسلمين شيئا وليس لها سوى هدف واحد وهو إيقاف ثورة المسلمين فقط لا غير، وأيقن المسلمون أن الأسبان الصليبيين لا عهد لهم ولا ذمة، فانقلب النصارى يفتكون بكل المسلمين في أنحاء أسبانيا سواءًا من اشترك في الثورة أم لم يشترك، واشتبك الدون خوان مع قوات مولاي عبد الله في عدة معارك ولكنها غير حاسمة، وفى نفس الوقت أبقى الأسبان على خط التفاوض مع الزعيم ‘الحبقى’ الذي رأى فيه النصارى السبيل لشق صف الثوار المسلمين.سار مجرى القتال في غير صالح المسلمين لانعدام التكافؤ بين الطرفين خلا الإيمان بالله عز وجل، ورأى مولاي عبد الله أن أتباعه يسقطون من حوله تباعا وتجهم الموقف والقوة الغاشمة تجتاح كل شيء، فبدأ يفكر في الصلح والسلام ولكن بغير الشروط السابقة، وتدخل بعض زعماء الأسبان ممن له عقل وتدبير لإجراء الصلح، ولكن ‘الحبقى’ استبق الجميع وشق صف الثورة وخرج عن طاعة مولاي عبد الله ومن معه، وذهب بسرية من فرسانه إلى معسكر الصليبيين وقدم الخضوع والذلة إلى قائدهم ‘الدون خوان’.كانت هذه الخطوة الذليلة من ‘الحبقى’ محل سخط كل المسلمين وخاصة زعيمهم مولاي عبد الله، فلقد لمح أن ‘الحبقى’ يروج بمنتهى القوة لهذا السلام الذي هو خضوع وذلة بالكلية للصليبيين، وأن الصف المسلم يتصدع بمحاولات ‘الحبقى’ وأراجيفه، خاصة بعدما لمح المسلمون نية الصليبيين في نفيهم بالكلية عن الأندلس، وهذا يجعل الهدف والداعي الذي قامت من أجله الثورة في الأصل هباءاً منثوراً وكيف سيعيدون دولة الإسلام في الأندلس مرة أخرى إذا طردوا من أوطانهم، لهذه الأسباب كلها قرر مجلس قيادة الثورة إعدام ‘الحبقى’ الذي ظهر منه ما يدل على عمالته وولائه للصليبيين.
استئناف القتال
أعلن مولاي عبد الله أن الثورة لن تتوقف وأن الموريسكيين سيجاهدون حتى الموت وأن حلمهم بإعادة دولة الإسلام في الأندلس لم يمت في قلوبهم، وأنه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه مما بذلوا له من وعود معسولة وأماني كاذبة وكان لهذا الموقف الشجاع من مولاي عبد الله فعل السحر في نفوس المسلمين في جميع أنحاء أسبانيا، فاندلعت الثورة كالنار في الهشيم، وقابل الأسبان ذلك بمنتهى القسوة والشدة بل والحقد الجنوني، حيث مضوا في القتل والتخريب لكل ما هو مسلم، وهدموا القرى والضياع والحقول حتى لا يبقى للثوار مثوى أو مصدر للقوت.
كانت لهذه القسوة المفزعة أثر كبير على نفوس الموريسكيين حيث فر كثير منهم من البلاد كلها إلى إخوانهم المسلمين في إفريقية، وفى 28 أكتوبر سنة1570 أصدر فيليب الثاني قراراً بنفي الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد الأخرى بأسبانيا، ويوزعون على سائر الولايات الإسبانية بل مصادرة أملاكهم وأموالهم ، ووقع تنفيذ القرار في مشهد يندى له جبين البشرية من الخزي حيث السفك والنهب والاغتصاب، وسيق مسلمو غرناطة كالقطعان لمسافات طويلة حيث الجوع والعطش والمرض ثم وضعوا بعد ذلك فيما يشبه المعسكرات الجماعية حيث بقوا رهن المتابعة والرقابة الدائمة، وعين لهم مشرفاً خاصاً يتولى شئونهم ووضعت لهم جملة من القيود من يخالف أدناها يقتل شر قتلة.
الخيانة ونهاية البطل
بعد هذه الوحشية منقطعة النظير وبعد سلسلة من المذابح والمجازر البشرية المروعة في حق مسلمي الأندلس وبعد فرار الكثير من الموريسكيين إلى إفريقية وبعد نفي بقيتهم داخل أسبانيا لم يبق أمام الأسبان سوى آخر فرسان الأندلس مولاي عبد الله وجيشه الصغير الذي ظل مقاوماً للصليبيين معتصماً بأعماق الجبال، رافضاً للصلح أو المهادنة أو الخضوع لسلطة الصليب مهما كانت التضحيات، وهو في هذه الأثناء يقوم بحرب عصابات ضد الحاميات الأسبانية المنتشرة بغرناطة وأوقعت هذه الحرب خسائر فادحة بالأسبان، ولكنها أيضا أنهكت قوة جيش مولاي عبد الله الصغير.ولأن هذا العصر وتلك الأيام كانت توصف بالخيانة والعمالة وحب الدنيا وكراهية الموت والخوف على النفس والمال والعيال، فلقد استطاع أعداء الإسلام أن يستقطبوا ويجندوا أحد ضباط مولاي عبد الله محمد ويغروه بالأموال والمنح والوعود والعفو الشامل إذا استطاع أن يسلمهم مولاي عبد الله محمد حياً أو ميتاً، وكان الإغراء قوياً ومثيراً والنفوس ضعيفة، فدبر هذا الضابط الخائن خطته لاغتيال آخر أبطال الأندلس، وفى ذات يوم هجم الخائن مع بعض من أغواهم على البطل مولاي عبد الله الذي قاومهم قدر استطاعته ولكنه وبعد معركة غير متكافئة سقط شهيداً، فقام الخونة بفعلة شنيعة حيث ألقوا جثته من فوق الصخور لكي يراها الجميع ويعلم أسيادهم الأسبان بنجاح مخطط الغدر والخيانة، وهكذا تدفع الأمة من جديد ثمن خيانة بعض أبنائها وتفقد ولداً باراً وبطلاً عظيماً قام بنصرتها والدفاع عن عرضها وحاول استعادة مجدها ولكنه وللأسف الشديد زمن الخيانة والعمالة!.
هكذا يفعلون في أبطالنا
إن ميراث الحقد والعداوة الدفين في قلوب أعداء الإسلام ضد كل ما هو مسلم ليدعو كل صادق وغيور لأن يكون على استعداد دائم للمعركة التي يخطط لها أعداء الإسلام، والصدام الوشيك بين الحق والباطل، وما فعله الأسبان بجثة البطل الشهيد مولاي عبد الله يدل على مدى الحقد العمى المشتعل في قلوب أعداء الإسلام، حيث قام الأسبان بحمل الجثة إلى غرناطة وهناك استقبلوها في حفل ضخم حضره الكبار والصغار الرجال والنساء، ورتبوا موكباً أركبت فيه الجثة مسندة إلى بغل وعليها ثياب كاملة كأنه إنسان حي ومن ورائها أفواج كثيرة من الموريسكيين الذين سلموا عقب اغتيال زعيمهم، ثم حملت الجثة إلى النطع وأجرى فيها حكم الإعدام، فقطع رأسها ثم جرت في شوارع غرناطة مبالغة في التمثيل والتنكيل ومزقت أربعاً وأحرقت بعد ذلك في الميدان الكبير ووضع الرأس في قفص من الحديد، رفع فوق سارية في خاصة المدينة تجاه جبال البشرات معقل الثورة ومنشأها، وهكذا يفعلون في أبطالنا.
كان العالم الإسلامي مفتوح الحدود, تجتازه قوافل التجارة وأفواج الرحالة والحجاج المسلمون القاصدون بيت الله الحرام.
في مستهل القرن الثالث عشر للميلاد، السابع للهجرة، بدأ إنشاء الجامعات في أوروبا. ففي عام 1211م أنشئت جامعة باريس. وفي عام 1215م أنشئت جامعة أكسفورد. وفي عام 1221م أنشئت مونبلييه بفرنسا. وفي عام 1228م أنشئت جامعة سلمنكا في أسبانيا.
ومن هذه الجامعات التي ورثت علم العرب المطبوع بالثقافة الهيلينية انبثق عصر النهضة. وكما كان سقراط وأفلاطون وأرسطو وأرخميدس وايبوقراط وجالينوس وبطليموس وغيرهم من عباقرة اليونان رواد العرب في العلم والفلسفة كذلك فإن الكندي والرازي والبتاني وابن سينا والفارابي وابن الهيثم والبيروني وابن النفيس والزهراوي وابن زهر وابن رشد وابن الطفيل وابن باجة وابن البيطار وغيرهم كانوا رواد.

0 التعليقات: